سطور أدبية

قراءة في «طوق «العناكب»» للشاعرة التونسية سهام بن رحمة

من وجع وذكرى وهذيان وشكوى، ومن شفتين عازفتين يأتي العزف منفردا بأسئلة الرؤى وقد تستر سيد الحرف بنغمات لها سمفونية اللقاء بالحياة…

إنّ الشاعرة قد نفخت من روحها ما استوى من طين الكلمات ليكون الشعر قدحا وآنية، وقَدَرًا ترقص تحت رناته نبضات قلب يعزف على وتر الأمنيات، ليحتضن الورقة ويخط ما تقاطر من شهد الكلمات وتخيط من خيوط العنكبوت “طوق العناكب” التي عزفت فيها الشاعرة نغمات حنينها ورسمت بقلمها على خيوط العنكبوت في شرايين القارئ أغنية تكتمل معها الحياة. ليكون المخاض ويولد من رحم الكلمات شِعرها المتشكل من عهن السحاب فتنسج بـ:”نول” كلماتها بساط الذكرى والحزن والحلم، ويورق “طوق العناكب ” الذي اختارته الشاعرة سهام بن رحمة عنوانا لمجموعتها الشعرية الصادرة عن دار زينب للنشر والتوزيع سنة 2018.

فالشاعرة التي تعبت عواطفها بما أثاره شجنها وهي تطرق أبواب القصائد كانت تصنع حلمها، وهو حلم المرأة التي تصنع فكرتها وتبحث عن راحة نفسية تقودها إلى مكان ترتاح فيه عواطفها لتعيش كما النساء طويلا على حافة الأمنيات:

“سعيدا بوهم السواقي
ونهر غمر،
فتقطع رحلة ضوء شديد
تلهي أصابع عمر
تشقق الأمنيات
تخاف النساء من الامنيات…
أنا همزة للنساء
يغنين بعض الأناشيد من قهرهن”(ص17-18)

فتكون الحياة محملة بزخم الذكريات، تلك الذكريات التي دعتها للحلم، ومعانقة الأمنيات التي تفتح أجنحة الفراش وتنطلق لتحمل كل ذلك وهي تنتظر سحابة الحلم علها تمطر عشقا وأملا لتولد القصائد ويولد الشعر، لتبحث عن الانعتاق ويولد المنشود:

“لأنا نحب كثيرا
ونحلم أكثر
لأن الحياة لها أبجدياتها في المرور
ستلهو بأحلامنا في هدوء
تضج
كما تلعب الريح تخبو وتعلو
بموج البحور”(ص62)

وهكذا تكون (الحياة) هذه العبارة التي تكررت بدورها في 16 موضعا كتيمة (الحلم)، لتولد الشاعرة ويولد حلمها بالحياة وتفتح أبواب فكرتها وتنطلق في التعبير عن أحاسيسها، أحاسيس المرأة فيها لا أحاسيس الشاعرة التي مازالت تنسج حرير كلماتها:

“ونقتص حق الحياة، لأنا
بعثنا
شعوبا تحب الحياة،
وأخرى،
تصر على الانتقام
من العاشقين لهذي الحياة،”(ص33)

فتنبت القصائد من الحلم، لتكون الحياة شعرا، ترسم بنغماته ذكرياتها وأشواقها وأحزانها لتجمع أفكارها المتناثرة وهي بين مسارب القصائد ودهاليزها تبحث عن راحة في الحلم، في اللا واقع، تقنع نفسها أنها تعيش حياة غير التي تعيشها لتمنح القارئ عند قراءة نصوصها حق الانتشاء والحيرة في آن، حين تحمل الأمل بين جوانحها وتؤمن تمام الإيمان بأن الكلمة الشعرية بمفردها قادرة على أن تمنح الأشياء وجودها على حد تعبير ” هيدقير” فالشعر عندها ضرورة إبداعية وليس مجرد ترف عقلي عابر:

“فالخلق في رحم القصيدة وجيعة،
كالنشأة الأولى، حياة، بدؤها
من نطفة الكلمات تخلق مضغة
حبل القصيد عظامها،
تكسى العظام مجازها
روح تخبط في المدى
ترمي بخالقها،
فيخرج للحياة وقد بكته عيونها” (ص30).

ونلاحظ أن الشاعرة تميل إلى الاختزال لذلك تبرز بنيتها الشكلية بصورة واضحة تتسع فيها مساحة الدلالات، ليكون الوضوح والظهور حيث نرى هيمنة الدلالات الثنائية التي يمكن ان نجد لها تناغما في النص مع ترابطها، والذي يعود لقدرة الشاعرة وقوة خيالها، والتحكم باللغة وصناعة الشعر منها، كما يقول ايلمان كرانسو: “أن الشعر الحديث لا يميل إلى احتواء الاستعارات السهلة بل إلى عملية صنع الخيال الشاق أي خلق لغة ثانية تتفوق على اللغة المتداولة فلغة الشعر تصيب من يسمعها بالدهشة لما فيها من ترتيب في تركيبتها الفنية”.
كما أن اعتماد الشاعرة سهام بن رحمة على مطية الحلم والحياة جعل من ذاكرتها روحا تطاردها وحلما تمسك بتلابيبه علها تظفر بحلمها المفقود.

“عرشها حلم غريب
ليس شمسا،
مثلما كانت ترى
إن هدهدا جاب المدينة
في الصحاري،
حلمها جرعات ماء
مالها لا تضرب الأرض الهجينة”(ص66).

تختلط عند الشاعرة نار الكتابة بجراح الشعر لتضيء القصيدة من رحم الألم والوجع، فالشعر عندها عبارة عن مغامرة مرتبطة بسلسلة من الأحداث تساهم في سيرورة فعل الكتابة، ليولد النص بكل ما فيه من حرائق، حرائق لا تحترق إلا لتنير درب الحياة. لتعبر عن روح القارئ الذي يجد بعضا من أنفاسه في هذه النصوص.

“لا أدعي أني أتيت من الوراء، لكنني
سأقول ما كتبت قصائدهم
وما كتبت، قصائدنا القديمة مثلهم
من علّم امرأة سؤالا عابرا،
كي تصنع الذكرى…”(ص46).

فالشعر عندها ليس مجرد كلمات متراصة أو مشاعر أو موسيقى بل هو أنفاس القارئ وروحه يراها بين ثنايا النص، ليكون الشعر ذلك الطبيب النفسي الذي يعري ذات هذا القارئ فيخرج به من حالات إلى حالات أخرى تلهب زفير الكلمات وتكشف ذاتها وواقعها بسرد حالات وجدانية تلامس الواقع وتعبر عنه.

وفي الختام يمكن القول إن لغة الشعر عند سهام بن رحمة تصيب من يسمعها بالدهشة لما فيها من زخم شعري وتراكيب فنية تفتح أبواب الشعر على معان أخرى نقتنص منها لحظة شعرية شاردة، حين ندخل مملكة النساء، وحين تُقُّ صدور الغيب لامرأة صنعت من خيوط العنكبوت قصائد متصلة بخيال شاعرة واحساسها وثقافتها وما يحيط بها من موجودات وأحداث.


اكتشاف المزيد من ديوان العرب

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من ديوان العرب

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading